فصل: باب الجمع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.باب من الاستثناء:

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} منصوبة لأنه مستثنى ليس من أول الكلام، وهذا الذي يجيء في معنى لكن خارجا من أول الكلام إنما يريد لكنْ أمانيَّ ولكِنَّهُم يَتَمَنَّونَ. وإنما فسرناه بلكن لنبين خروجه من الأول. إلا ترى أنك إذا ذكرت لكن وجدت الكلام منقطعًا من أوله، ومثل ذلك في القرآن كثير منه قوله عز وجل: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى} {إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ} وقال: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} وقال: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلًا} يقول: فَهَلاّ كانَ منهُمْ مَنْ يَنْهى ثم قال: ولكنْ قَليلًا مِنْهُمْ مَنْ يَنْهى ثم قال: ولكنْ قَليل مِنْهُمْ قَدْ نَهَوْا فلما جاء مستثنى خارجًا من الأول انتصب. ومثله: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَة آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} يقول: فُهَلاّ كانت ثم قال: ولكنّ قومَ يونسَ فإلا تجيء في معنى لكن. واذا عرفت إنها في معنى لكن فينبغي أن تعرف خروجها من أوله. وقد يكون: {إِلاَّ قَوْمُ يُونُسَ} رفعا، تجعل إلاّ وما بعده في موضع صفة بمنزلة غير كأنه قال: فهلا كانَتْ قرية آمنتْ غيرُ قريةِ قومِ يونس ومثلها: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَة إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فقوله: {إِلاَّ اللَّهُ} صفة ولولا ذلك لانتصب لأنه مستثنى مقدم يجوز القاؤه من الكلام. وكل مستثنى مقدم يجوز القاؤه من الكلام نصب، وهذا قد يجوز القاؤه فلو قلت لو كانَ فِيهِما آلِهَة لَفَسدَتا جاز، فقد يجوز فيه النصب ويكون مثل قوله ما مَرَّ بي أحَد إلاَّ زيدًا مثلُكَ. قال الشاعر فيما هو صفة: من الطويل وهو الشاهد الرابع والتسعون:
أُنِيخَتْ فألقتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ ** قَليل بها الأَصْواتُ إلاَّ بُغامُها

وقال: من الوافر وهو الشاهد الخامس والستعون:
وَكُلُّ أخٍ مُفارِقُهُ أَخُوه ** لَعَمْرُ إِبيكَ إلا الفَرْقَدانِ

ومثل المنصوب الذي في معنى لكن قول الله عز وجل: {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ} {إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا} وهو في الشعر كثير وفي الكلام. قال الفرزدق: من الطويل وهو الشاهد السادس والتسعون:
وما سَجَنُوني غيرَ أَني ابْنُ غالِبِ ** وأَني من الأَثرَينَ غَيْرَ الزَعانِفِ

يقول: ولكنَّني، وهو مثل قولهم: ما فيها أحد إلا حمارًا لما كان ليس من أول الكلام جعل على معنى لكن ومثله: من الخفيف وهو الشاهد السابع والتسعون:
ليسَ بَيْنِي وبينَ قيسٍ عِتابَ ** غيرَ طَعْنِ الكُلا وَضَرْبِ الرِقابِ

وقوله: من الطويل وهو الشاهد الثامن والتسعون:
حَلَفْتُ يمينًا غَير ذِي مَثْنَوِيَّةٍ ** وَلا عِلْمَ إلاَّ حُسْنَ ظَنٍّ بِغَايِبِ

وبصاحب.

.باب الجمع:

وأمّا تَثْقِيلُ: {الأَمَانِيُّ} فلأن واحدها أُمْنِيَّة مُثْقَّل. وكلُّ ما كان واحده مثقلا مثل: بُخْتِيَّة وبَخاتِيّ فهو مُثَقَّل. وقد قرأ بعضهم: {إلاّ أَمانِي} فخفف وذلك جائز لأن الجمع على غير واحده وينقص منه ويزاد فيه. فأما الأَثافي فكُلُّهُم يخفّفها وواحدها أُثِفيَّة مثقّلة وإنما خففوها لأنهم يستعملونها في الكلام والشعر كثيرا، وتثقيلها في القياس جائز. ومثل تخفيف الأمانِي قولهم: مِفْتاح ومَفاتِح وفي مِعْطاء مَعاطٍ قال الأخفش: قد سمعت بلعنبر تقول: صحارِيَ ومَعاطِيّ فتثقل.
وقوله: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} اي: فَماَّ هُمْ إلاّ يَظُنُّونَ.
{فَوَيْل لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذامِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْل لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْل لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} {فَوَيْل لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} يرفع الويلُ لأنه اسم مبتدأ جعل ما بعده خبره. وكذلك الوَيْحُ والوَيْلُ والوَيْسُ إذا كانت بعدهنّ هذه اللام ترفعهن. واما التَعْسُ والبُعْدُ وما أشبههما فهو نصب أبدا، وذلك أَنّ كل ما كان من هذا النحو تحسن أضافته بغير لام فهو رفع باللام ونصب بغير لام نحو: {وَيْل لِّلْمُطَفِّفِينَ} ووَيْل لِزَيْدٍ ولو ألقيت اللام قلت: ويلَ زيدٍ وويحَ زيدٍ وويسَ زيدٍ، فقد حسنت إضافته بغير لام فلذلك رفعته باللام مثل: {وَيْل يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}. وأما قوله: {أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ} و: {أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ} و: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْسًا لَّهُمْ} فَهذا لا تَحسن إضافتَهُ بغير لام. ولو قلت: تَعْسَهُم أو بُعْدَهُم لم يحسن. وانتصاب هذا كله بالفعل، كأنك قلت: أَتْعَسَهُم اللّهُ تَعْسًا وأَبْعَدَهُم اللّهُ بُعدا.
واذا قلت ويْلَ زيدٍ فكأنك قلت ألْزَمَهُ اللّهُ الوَيْلَ.
وأما رفعك اياه باللام فإنما كان لأنك جعلت ذلك واقعا واجبا لهم في الاستحقاق. ورفعه على الابتداء، وما بعده مبني عليه، وقد ينصبه قوم على ضمير الفعل وهو قياس حسن، فيقولون: وَيْلًا لزيد ووَيْحًا لِزيد.
قال الشاعر: من الطويل وهو الشاهد التاسع والتسعون:
كَسَا اللُؤْمُ تَيْمًا خُضْرَةً في جُلُودها ** فَوَيْلًا لِتَيْمٍ من سرابيلها الخُضْرِ

قال الأخفش: حدثني عيسى بن عمر أنه سمع الإعراب ينشدونه هكذا بالنصب، ومنهم من يرفع ما ينصب في هذا الباب. قال أبو زُبَيدَ: من الطويل وهو الشاهد المئة:
أَغارَ وأَقْوى ذات يومٍ وخَيْبَة ** لأوَّلِ مَنْ يَلْقى غي مُيَسَّرُ

.باب اللام:

وقوله: {لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} فهذه اللام إذا كانت في معنى كَيْ كان ما بعدها نصبا على ضمير أَنْ، وكذلك المنتصب بكيْ هو أيضًا على ضمير أَنْ كأنه يقول: الاشتراءِ، فيَشتَرُوا لا يكون اسما إلا بأنْ، فأَنْ مضمرة وهي الناصبة وهي في موضع جر باللام. وكذلك: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً} أَنْ مضمرة وقد جرتها كيْ وقالوا: كَيْمَهْ فمَهْ اسم لأنه ما التي في الاستفهام وأضافَ كَيْ اليها. وقد تكون كَيْ بمنزلة أَنْ هي الناصبة وذلك قوله: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ} فاوقع عليها اللام. ولو لم تكن كَيْ وما بعدها اسما لم تقع عليها اللام وكذلك ما انتصب بعد حتى إنَّما انْتَصَبَ بضمرِ أَنْ قال: {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} و: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} إنَّما هو حتَّى أَنْ يَأْتِيَ وحَتّى أَنْ تَتَّبعَ، وكذلك جميع ما في القرآن من حتى.
وكذلك: {وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} اي: حتّى أَنْ يقول: لأنّ حتّى في معنى إلىّ، تقول: أَقَمْنا حتّى الليلِ أيْ: إلى اللَّيْلِ.
فإن قيل: إظهارُ أَنْ هاهنا قبيح قلتُ: قد تُضمر أشياءُ يقبحُ إظهارها إذا كانوا يستغنون عنها.
ألا ترى أَنَّ قولك: إنْ زيدًا ضربْتَهُ منتصب بفعل مضمر لو اظهرته لم يحسن. وقد قرئت هذه الآية: {وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} يريد: حتّى الرَّسُولُ قائل، جعل ما بعد حتّى مبتدأَ. وقد يكون ذلك نحو قولك: سِرْتُ حتّى أدْخُلُها إذا أردت: سرت فإذا أَنَا داخِل فيها وسِرْتُ أمسِ حتّى أَدْخُلُها اليومَ أيْ: حتّى أَنَا اليومَ أَدْخُلْها فَلا أُمْنَعْ.
واذا كان غاية للسير نصبته. وكذلك ما لم يجب مما يقع عليه حتّى نحو: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُبًا}. واما: {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} فنصب بلَنْ كما نصب بأنْ وقال بعضهم: إنما هي أَنْ جُعِلَتْ لا كأنه يريد لا أَنْ يُخْلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ فلما كثرت في الكلام حذفت، وهذا قول، وكذلك جميعُ لَنْ في القرآن. وينبغي لمَنْ قال ذلك القول أن يرفع أزيد لَنْ تَضْرِبُ لأنَّه في معنى أزيدُ لا ضَرْبَ لَه.
وكذلك ما نصب بإذَنْ تقول: إذَنْ آتيَكَ تنصب بها كما تنصب بأَنْ وبلَنْ فإذا كان قبلها الفاء أوْ الواو رفعت نحو قول الله عز وجل: {وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} وقال: {فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} وقد يكون هذا نصبا أيضًا عنده على اعمال إذَنْ. وزعموا أنَّهُ في بعض القراءة منصوب وإنَّما رفع لأنَّ معتمد الفعل صار على الفاء والواو ولم يحمل على إذَنْ، فكأنه قال: فَلا يُؤتُونَ الناسَ إذًا نَقِيرا وولا تُمَتَّعُونَ إذَنْ وقوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أنْ لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} و: {وَحَسِبُواْ أنْ لا تَكُونَ فِتْنَة} و: {أنْ لا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} فارتفع الفعل بعد أنْ لا لأنَّ أنْ هذه مثقّلة في المعنى، ولكنها خففت وجعل الاسم فيها مضمرا، والدليل على ذلك أنّ الاسم يحسن فيها والتثقيل. ألا ترى أنَّكَ تقول: أَفَلا يَرَوْنَ أنَّه لا يرجعُ إليهِمْ، وتقول: أَنَّهُمْ لا يَقْدِرونَ على شَيْء وأَنَّهُ لا تَكونُ فتنة. وقال: {آيَتكَ أنْ لا تُكَلِّمَ الناسَ} نصب لأن هذا ليس في معنى المثقّل، إنما هو: {آيَتُكَ أنْ لا تُكَلِّمَ} كما تقول: {آيتُكَ أَنْ تُكَلِّمَ} وأدخلت: {لا} للمعنى الذي أريد من النفي. ولو رفعت هذا جاز على معنى آيتك أنك لا تكلم، ولو نصب الآخر جاز على أن تجعلها أنْ الخفيفة التي تعمل في الأفعال. ومثل ذلك: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ}.
وقال: {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَة} وقال: {إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وتقول: عَلِمْت أَنْ لا تُكَرِّمُني وحسِبْتُ أَنْ لا تُكْرِمُنِي. فهذا مثل ما ذكرت لك. فإنما صار عَلِمْتُ واسْتَيْقَنْتُ ما بعده رفع لأنه واجب. فلما كان واجبا لم يحسن أن يكون بعده أنْ التي تعمل في الأفعال، لأن تلك إنما تكون في غير الواجب، إلا ترى أنك تقول: أُريدُ أَنْ تَأْتِيَني فلا يكون هذا إلا لأمر لم يقع، وارتفع ما بعد الظن وما أشبهه لأنه مشاكل للعلم لأنه يعلم بعض الشيء إذا كان يظنه. وأما خَشِيتُ أنْ لا تُكْرِمَني فهذا لم يقع. ففي مثل هذا تعمل أن الخفيفة ولو رفعته على أمر قد استقر عندك وعرفته كأنك جريته فكان لا يكرمك فقلت: خَشِيتُ أنْ لا تُكْرِمُني أي: خشيتُ أَنَّكَ لا تُكْرِمُني جاز.
وزعم يونس أن ناسا من العرب يفتحون اللام التي في مكان كَيْ وانشدوا هذا البيت فزعم أنه سمعه مفتوحا: من الوافر وهو الشاهد الحادي بعد المئة:
يُؤامِرُني رَبيعَةُ كُلَّ يَومٍ ** لأُهْلِكَهُ وأَقْتِنيَ الدَّجاجا

وزعم خلف أنها لغة لبني العنبر وانه سمع رجلا ينشد هذا البيت منهم مفتوحا: من الطويل وهو الشاهد الثاني بعد المئة:
فقُلْتُ لكَلْبِيَّيْ قُضاعَةَ إنَّما ** تَخَبَّرْ تُماني أهْلَ فَلْجٍ لأَمْنَعا

يريد مِنْ أهلِ فَلْجٍ. وقد سمعت أنا ذلك من العرب، وذلك أن اصل اللام الفتح وإنما كسرت في الاضافة ليفرق بينها وبين لام الابتداء. وزعم أبو عبيدة أنه سمع لام لعلَّ مفتوحة في لغةِ من يجرّبها ما بعدها في قول الشاعر: من الوافر وهو الشاهد الثالث بعد المئة:
لِعَلَّ اللّهِ يُمْكِنُنِي عَلَيْها ** جِهارًا من زُهَيْرٍ أَوْ أَسِيدِ

يريد لِعَلَّ عبدِ اللّهِ فهذه اللام مكسورة لأنها لام اضافة. وقد زعم أنه قد سمعها مفتوحة فهي مثل لام كَيْ. وقد سمعنا من العرب من يرفع بعد كيما وأنشد: من الطويل وهو الشاهد الرابع بعد المئة:
إذا أَنْتَ لم تَنْفَعْ فَضُرَّ فإنَّما ** يُرَجّى الفَتَى كيما يَضُرُّ وَيَنْفَعُ

فهذا جعل ما اسما وجعل يَضَرُّ ويَنْفَعُ من صلته جعله اسما للفعل وأوقع كَيْ عليه وجعل كَيْ بمنزلة اللام. وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} وقوله: {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُور رَّحِيم} فيشبه أن تكون الفاء زائدة كزيادة ما ويكون الذي بعد الفاء بدلا من أن التي قبلها. وأجوده أن تكسر إن وأَن تجعل الفاء جواب المجازاة. وزعموا أنه يقولون أَخُوكَ فوُجِد بل أخوك فَجُهِدَ يريدون أخوك وُجِدَ وبل أخوك جُهِدَ فيزيدون الفاء. وقد فسر الحسن: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} على حذف الواو. وقال: معناها: قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها، فالواو في هذا زائدة. قال الشاعر: من الكامل وهو الشاهد الخامس بعد المئة:
فإذا وَذَلِكَ يا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ ** إلاَّ كَلَمَّةِ حالِمٍ بِخَيالِ

وقال: من الكامل وهو الشاهد السادس بعد المئة:
فإذا وذلكَ ليسَ إلاّ حينُه ** واذا مَضَى شَيْء كأَنْ لَمْ يُفْعَلِ

كأنه زاد الواو وجعل خبره مضمرا، ونحو هذا مما خبره مضمر كثير.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ}.
قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ}.
وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} فجعله أَمْرًا كأنّه يقول: وإحسانًا بالوالدينِ أي: أَحْسِنُوا إحْسانا.
وقال: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} فهو على أحد وجهين إمّا أَنْ يكون يراد بالحُسْنِ الحَسَنَ كما تقول: البُخْل والبَخلَ، وإمّا أنْ يكونَ جعل الحُسْنَ هو الحَسَنَ في التشبيه كما تقول: إنَّما أَنْتَ أَكل وشُرْب. قال الشاعر: من الوافر وهو الشاهد الثامن بعد المئة:
وَخَيْلٍ قدْ دَلَفْت لَها بِخَيْلٍ ** تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْب وَجِيع

دَلَفْتُ: قَصَدْتُ فجعل التحية ضربا. وهذه الكلمة في الكلام ليست بكثيرة وقد جاءت في القرآن.وقد قرأها بعضهم: {حَسَنا} يريد قولوا لهم حَسَنًا وقال بعضهم: {قولوا للناسِ حُسْنى} يؤنثها ولم ينّونها، وهذا لا يكاد يكون لا الحُسْنى لا يتكلم بها إلا بالألف واللام، كما لا يتلكم بتذكيرها إلا بالألف واللام فلو قلت: جاءَني أَحْسَنُ وأَطْوَلُ لم يَحْسُن حتّى تقول: جاءَني الأَحْسَنُ والأَطْوَلُ فكذلك هذا يقول: جاءَتْنِي الحُسْنى والطُولى. إلاّ أَنهم قد جعلوا أِشياء من هذا أسماء نحو دُنْيا وأُوْلَى. قال الراجز: وهو الشاهد التاسع بعد المئة:
في سَعْيِ دُنْيا طالَ ما قَدْ مَدَّتِ

ويقولون: هي خَيْرَةُ النِساءِ هنّ خَيْراتُ النِّساء لا يكادون يفردونه وافراده جائز. وفي كتاب الله عز وجل: {فِيهِنَّ خَيْرَات حِسَان} وذلك أنه لم يرد أَفْعَلَ وإنما اراد تأنيث الخير لأنه لما وصف فقال: فلان خَيْر أشبه الصفات فأدخل الهاء للمؤنث.
وأما قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} ثم قال: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} ثم قال: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ} فلأنه خاطبهم من بعدما حدث عنهم وذا في الكلام والشعر كثير. قال الشاعر: من الطويل وهو الشاهد العاشر بعد المئة:
أسيئي بِنا أوّ أَحْسِنِي لا مَلُومَة ** لَدَيْنا وَلا مَقْلية إِنْ تَقَلَّبِ

وإنما يريدون تَقَلَّيْتِ. وقال الآخر: من الكامل وهوالشاهد الحادي عشر بعد المئة:
شَطَّتْ مُزارَ العاشِقينَ فأصبحَتْ ** عَسِرًا عَلَيَّ طِلابُكِ ابْنَة مَخْرَمِ

إنَّما أراد فأصبحت ابنَةُ مخرَمٍ عسرًا على طلابُها. وجاز أن يجعل الكلام كأنه خاطبها لأنه حين قال: شَطَّتْ مَزارَ العاشِقين كأنه قال: شَطَطْتِ مزار العاشِقين لأنه إيّاها يريدُ بهذا الكلام. ومثله مما يخرج من أوله قوله: من الرجز وهو الشاهد الثاني عشر بعد المئة:
إنَّ تَميمًا خُلِقَتْ مَلْمُوما

فأراد القبيلة بقوله: خُلِقَتْ ثم قال مَلْمُوما على الحي أو الرجل، ولذلك قال:
مثلَ الصَّفا لا تَشْتَكِي الكُلُوما

ثم قال:
قَومًا تَرَى واحدَهُم صِهْمِيما

فجاء بالجماعة لأنه اراد القبيلة أو الحي ثم قال:
لا راحِمَ الناسِ ولا مُرْحُوما

وقال الشاعر: من الطويل وهو الشاهد الثالث عشر بعد المئة:
أقولُ لَهُ والرمحُ يأطِرُمَتْنَهُ ** تأَمَّل خُفافًا إِنَّنِي أَنَاذلِكا

وتَبَيَّنْ خْفافًا، يريد: أَنَا هُوَ. وفي كتاب الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم} فأخبر بلفظ الغائب وقد كان في المخاطبة لأن ذلك يدل على المعنى. وقال الأسْودَ: من البسيط وهو الشاهد الرابع عشر بعد المئة:
وَجَفْنَةٍ كإِزاءِ الحَوْضُ مُتْرَعَةٍ ** ترى جَوانِبَها بِالشَّحْمِ مَفْتُونا

فيكون على أنه حمله على المعنى أَي: ترى كلَّ جانبٍ منها، أو جعل صفة الجميع واحدا كنحو ما جاء في الكلام. وقوله مأطِرُ مَتْنَه يثنى متنه. وكذلك: {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لأن الذي أخبر عنه هو الذي خاطب. قال رؤبة: من الرجز وهو الشاهد الخامس عشر بعد المئة:
الحَمْدُ لِلّهِ الاَعَزِّ الأَجْلَلِ ** أَنْتَ مَلِيكُ الناسِ ربًّا فَاقْبَلِ

وقال زهير: من الوافر وهو الشاهد السادس عشر بعد المئة:
فإنّي لَوْ أُلاقِيكَ أجْتَهَدْنَا ** وكانَ لِكُلِّ مُنْكَرَةٍ كِفاء

فأُبْرِئ مُوضَحاتِ الرأسِ مِنْهُ ** وَقَدْ يَشْفِى من الجَرَبِ الهِناءُ

وقال الله تبارك وتعالى: {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هذا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} فَذَكَّر بعد التأنيث كأنه أراد: هذا الأمر الذي كنتم به تستعجلون. ومثله: {فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذارَبِّي هَاذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ} فيكون هذا على: الذي أرى ربّي أي: هذا الشيء ربي. وهذا يشبه قول المفسرين: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائكُمْ} قال: إنَّما دخلت إلى لأن معنى الرَفَث والأفْضاء واحد، فكأنه قال: الافضاءُ إلى نِسائِكُمْ، وإنما يقال: رَفْثَ بامرَأَتِه ولا يقال: إلى امرأته وذا عندي كنحو ما يجوز من الباء في مكان إلى في قوله تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} وإنما هو أحسن اليّ فلم إلى ووضع الباء مكانها وفي مكان على في قوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} إنما هو غمًّا على غَمٍّ وقوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} أي: على قِنطارٍ كما تقول: مررتُ بِهِ ومررت عَلَيْهِ كما قال الشاعر:- وأخبرني من أثق به أنه سمعه من العرب-: من الوافر وهو الشاهد الرابع والعشرون:
إذا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ** لَعَمْرُ اللّهِ أَعْجَبَنِي رِضاها

يريد: عنى. وذا يشبه: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} لأنك تقول: خَلَوْتُ إلَيْهِ وصنعنا كذا وكذا وخَلَوْتُ به. وإن شئت جعلتها في معنى قوله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي: معَ اللّهِ، وكما قال: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} أي: على القَوْمِ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} فرفع هذا لأنه كُلَّ ما كان من الفعل على يَفْعَلُ هو وتَفْعَل أنت وأَفْعل أَنا ونَفْعَلُ نَحن فهو أبدًا مرفوع لا تعمل فيه إلا الحروف التي ذكرت لك من حروف النصب أو حروف الجزم والأمر والنهي والمجازاة. وليس شيء من ذلك هاهنا وإنما رفع لموقعه في موضع الأسماء. ومعنى هذا الكلام حكاية، كأنه قال: اِسْتَحْلَفْناهُم لا يَعْبُدون أي: قُلْنا لَهُم: واللّهِ لا تُعْبَدوْنَ، وذلك أنها تقرأ: {يَعْبُدون} و: {تَعْبُدون}. قال: {وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ} فإن شئت جعلت لا يَسَّمَّعُون مبتدأ وإنْ شئت قلت: هو في معنى أنْ لا لا يَسَّمَّعُوا فلما حذفت أنْ اِرتفع، كما تقول: أَتَيْتُكَ تُعْطِيني وتُحْسِنُ إِلَيَّ وتَنْظُرُ في حاجتي ومثله مُرْهُ يُعطِيني إنْ شئت جعلته على فَهْوَ يُعطِيني وإنْ شئت على أَنْ يُعطِيني. فلما أَلْقَيْتَ أَنْ ارتفع. قال الشاعر: من الطويل وهو الشاهد السابع بعد المئة:
ألا أَيُّهذا الزاجِرِي احضر الوغي ** وأَنْ أَتْبَعَ اللَّذَّاتِ هَلْ أنت مُخْلِدِي

فأَحْضُرَ في معنى أَنْ أُحْضُرَ.
{ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّم عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْي فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
قال: {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فجعلها من تَتَظاهَرُونَ وأدغم التاء في الظاء وبها نقرأ. وقد قرئت: {تَظاهَرون} مخففة بحذف التاء الآخرِة لأَنَّها زائدة لغير معنى. وقال: {وَإِن يَأتُوكُمْ أَسْرى} وقرئت: {أُسَارَى}. وذلك لأن أَسير فَعِيل وهو يشبه مَرِيضًا لأنَّ به عيبا كما بالمريض، وهذا فَعِيل مثله. وقد قالوا في جماعة المريض: مَرْضى وقالوا: {أُسارَى} فجعلوها مثل سكارَى وكُسالىَ، لأنَّ جمع فَعْلان الذي به علة قد يشارك جمع فَعِيل وجمع فَعِل نحو: حَبِط وحَبْطى وحُباطَى وحَبِج وحَبْجى وحُباجى. وقد قالوا: {أَسارى} كما قالوا: {سَكَارَى}.
وقال بعضهم: {تَفْدُوهم} من تَفْدِى وبعضهم: {تُفادُوهم} من فادَى يُفادِي وبها نقرأ وكل ذلك صواب.
وقال: {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْي} وقال: {مَا هذاإِلاَّ بَشَر مِّثْلُكُمْ} و: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَة} رفع، لأن كل ما لا تحسن فيه الباء من خبر ما فهو رفع، لأن ما لا تشبه في ذلك الموضع بالفعل، وإنما تشبه بالفعل في الموضع الذي تحسن فيه الباء، لأنها حينئذ تكون في معنى ليس لا يشركها معها شيء. وذلك قول الله عز وجل: {مَا هذابَشَرًا}.، وتميم ترفعه، لأنه ليس من لغتهم أن يشبهوا ما بالفعل.
وقال: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء} وفي موضع آخر: {هَا أَنْتُمْ هؤلاء} كبعض ما ذكرنا وهو كثير في كلام العرب. وردّد التنبيه توكيدا. وتقول: ها أَنَا هذا وها أَنْتَ هذا فتجعل هدا للذي يخاطب، وتقول: هذا أنت. وقد جاء أشد من ذا. قال الله عز وجل: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ} والعصبة هي تنوء بالمفاتيح. قال وهو الشاهد السابع عشر بعد المئة من مجزوء الوافر:
تَنُوءُ بِها فَتُثْقِلُها ** عَجِيزَتُها

يريد: تَنوء بعجزيتها، اي: لا تقوم إلا جهدا بعد جهد قال الشاعر من البسيط وهو الشاهد الثامن عشر بعد المئة:
مِثْلُ القَنافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَت ** نَجْرانَ أَوْ بَلَغَتْ سَوءاتِهِم هَجَرُ

وهو يريد أن السوءات بلغت هَجَرًا، وهَجَرُ رفع لأنَّ القصيدةَ مرفوعة ومثلُ ذا قول الشاعر: من الطويل وهو الشاهد التاسع عشر بعد المئة:
وَتَلْحَقُ خَيْل لا هَوادَةَ بَينَها ** وتَشْقى الرِّماحُ بالضَياطِرَةِ الحُمْرِ

والضياطرةُ هم يشقونَ بالرماح. والضياطرةُ هم العِظام وواحد هم ضَيْطار مثل بَيْطار ومثل قول الشاعر: من الطويل وهو الشاهد العشرون بعد المئة:
لَقَدْ خِفْتُ حَتَّى ما تزَيدُ مَخافَتِي ** عَلى وعِلٍ بِذِي الفَقارَةِ عاقِلِ

يريد: حتى ما تزيد مخافةُ وَعِلٍ على مخافتي.
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْف بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ}.
قال: {فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ} وتفسيره: فقليلًا يؤمنون وما زائدة كما قال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} يقول: فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ وقال: {إِنَّهُ لَحَقّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} أي: لَحَقّ مثلَ أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ وزيادة ما في القرآن والكلام نحو ذا كثير. قال من المنسرح وهو الشاهد الحادي والعشرون بعد المئة:
لَوْ بَأَبانَيْنِ جاءَ يَخْطِبُها ** خُضِّبَ ما أَنْفُ خاطِبٍ بِدَمِ

أي: خُضِّبَ بِدَمٍ أنفُ خاطِبٍ.
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَاب مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّق لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
قال: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَاب مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّق لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} فان قيل فأين جواب: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَاب مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّق لِّمَا مَعَهُمْ} قلت: جوابه في القرآن كثير، واستغني عنه في هذا الموضع إذ عرف معناه. كذلك جميع الكلام إذا طال تجيء فيه أشياء ليس لها أجوبة في ذلك الموضع ويكون المعنى مستغنى به نحو قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} فيذكرون أن تفسيره: لَوْ سُيِّرَتْ الجِبالُ بقرآنٍ غيرِ هذا لَكَانَ هذا القرآنُ سَتُسَيَّر بِهِ الجِبالُ فاستُغْنِيَ عن اللَّفْظِ بالجَوابِ إذْ عُرِفَ المَعْنى. وقال: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ} ولم يجيء لتحسَبَنَّ الأول بجواب وتُرِكَ للاستغناءِ بما في القرآن من الأجوبة. وقال: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ} معناه لا يَحَسَبُنَّهُ خَيْرًا لَهُمْ وحذف ذلك الكلام وكان فيما بقي دليل على المعنى. ومثله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ثم قال: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ} من قبل أن يجيء بقوله فَعَلُوا كَذا وَكَذا لأن ذلك في القرآن كثير، استغني به. وكان في قوله: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} دليل على أَنَّهُمْ أعرَضُوا فاستغني بهذا وكذلك جميع ما جاز فيه نحو هذا. وقال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا} وقال: {لِيُتَبَرِّواْ} على معنى: خَلَّيْناهُمْ وإيّاكُمْ لَمْ نَمْنَعْكُمْ مِنْهُم بِذُنُوبِكُم. وقال: {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} ولم يذكر أنه خلاهم واياهم على وجه الترك في حال الابتلاء بما أَسْلفوا ثم لم يمنعهم من أعدائهم أن يسلطوا عليهم بظلمهم. وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} فليس لهذا جواب. وقال: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} فجواب هذا إنما هو في المعنى، وهذا كثير. وسنفسر كل ما مررنا به إن شاء الله. وزعموا أن هذا البيت ليس له جواب: من الطويل وهو الشاهد الثاني والعشرون بعد المئة:
وَدَوِّيَّةٍ قَفْرٍ تَمَشّى نَعامُها ** كَمَشْيِ النَّصارى في خِفافِ الأَرَنْدَجِ

يريد: ورُبَّ دَوِّيَّةٍ ثم لم يأت له بجواب. وقال: من البسيط وهو الشاهد الثالث والعشرون بعد المئة:
حتَى إذا أسْلَكُوهُ في قُتائِدَةٍ ** شَلًا كَما تَطْرُدُ الجَمالَةُ الشرُدُا

فهذا ليس له جواب إلا في المعنى. وزعم بعضُهم أنَّ هذا البيت: من الكامل وهو الشاهد الخامس بعد المئة:
فإذا وذلِكَ يا كُبَيْشَةُ لَمْ يكنْ ** إلاّ كَلَمَّةِ حالِمٍ بِخِيالِ

قالوا: الواو فيه ليست بزائدة ولكن الخبر مضمر.
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَاب مُّهِين}.
قال: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} فما وحدها اسم، و: {أَن يَكْفُرُواْ} تفسير له نحو: نِعْمَ رَجُلًا زَيْد و: {أَنْ يُنَزِّل} بَدَل من: {بِمَا أنَزَلَ اللَّهُ}.